رأي.. طارق عثمان يكتب لـCNN: الملكية المصرية وناصر والعالم العربي.. عبدالناصر والملكيات العربية (8)
راديو الأمل FM | سي إن إن
في الذكرى السبعين لسقوط الملكية المصرية وبداية المشروع الناصري، الكاتب والمعلق السياسي طارق عثمان يكتب سلسلة جديدة لـCNN بالعربية عن تأثيرهما على العالم العربي. والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
هناك من نقلوا أن العاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال كان يضع في قصره بالعاصمة الأردنية، عمان، صورة لجمال عبدالناصر لعدد من الشهور بعد النجاح السياسي العربي الكبير في حرب السويس في 1956. القصة قد تكون قابلة للتصديق، لأن الملك حسين، وهو وقتها في مقتبل شبابه، كان ربما مثله مثل الغالبية الساحقة من العرب في ذاك الزمن، شديد الإعجاب والتأثر بالسياسي المصري الذي ألحق هزيمة بالإمبراطورية البريطانية، وقد كانت تلك الهزيمة (كما تحدثنا من قبل في هذه السلسلة) مما جعل النزول التدريجي للإمبراطورية يبدو وكأنه انهيار سريع.
لكن المثير في الأمر أن المد الناصري في نهايات الخمسينات والستينات كان لا شك واحدًا من أهم الأخطار التي واجهت العرش الهاشمي في الأردن. والواقع أن الصورة لم تختلف بشكل جذري في ممالك أخرى في العالم العربي، لأن المشروع الناصري في جوهره حمل عوامل اختلاف وأحيانًا تضاد مع أغلب الملكيات العربية.
أولى نقاط الاختلاف كانت في العلاقة مع الغرب. جمال عبدالناصر بدأ عمله السياسي بعد تمكنه من حكم مصر بالتركيز على إخراج البريطانيين من البلد. وقد تطور ذلك العمل بسرعة شديدة ليصبح ضمن إطار سياسي يتكلم بوضوح عن إخراج الوجود الغربي -بكل أنواعه- من كل العالم العربي. هذا الإطار السياسي لم يفرق وقتها بين من كانوا تحت سيطرة الوجود الغربي وبين من توافقت مصالحهم مع أنواع من الوجود الغربي عندهم. بمعنى أن السرد السياسي وقتها لجمال عبدالناصر لم يتوقف كثيرًا مثلًا أمام بدايات التحالف السعودي الأمريكي الذي تبلور مع نهايات الحرب العالمية الثانية وبدأ يتشكل على أرض المملكة مع بدايات ومنتصف الخمسينات. كما أنه غالبًا لم يستوعب تعقيدات تطور الملكية المغربية في فترة ما بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى، وغيرها من الأمثلة حيث تشابكت علاقات الملكيات العربية مع مصالح غربية.
لذلك، فإنه منذ لحظة النجاح الكبير في السويس – وبالرغم (كما أوضحنا في حلقة سابقة من السلسلة) من أن الولايات المتحدة الأمريكية لعبت دورًا رئيسيًا في إفشال العدوان الثلاثي على مصر – فإن السرد السياسي في مصر (والمد المهول الذي ساعده وتبناه في تقريبًا كل أنحاء العالم العربي) نظر للغرب كله وعلى رأسه الولايات المتحدة كقوى مناقضة وأحيانًا كعدو مباشر (وكانت الأسباب التاريخية في التعامل مع الغرب مفهومة). لكن تلك النظرة كانت شديدة الاختلاف عن تلك التي نظرت بها ممالك عربية، مثل السعودية والمغرب والأردن وغيرهم، لعلاقتهم ذات الوجوه المختلفة مع الغرب.
النقطة الثانية أن المشروع الناصري، في تطويره لفكرة القومية العربية، أخذ من أفكارها الأولى (التي خرجت من الشام) الكثير من الاندفاعات الاشتراكية، كما أنه أخذ من تقييمه للتجربة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين (وهي تجربة مليئة بالفروقات الاجتماعية العملاقة، وأحيانًا المُحزنة) ما جعله يقتنع – ويرتبط فكريًا – بضرورة إحلال عدالة اجتماعية بسرعة وبأي ثمن وعلى طول وعرض مجال امتداد القومية العربية. وكان ذلك نقيضًا تامًا لأسس الاقتصاد السياسي التي كانت وقتها تُبنى عليها اقتصاديات كل الممالك العربية بلا استثناء.
النقطة الثالثة – ظاهرة جمال عبدالناصر نفسها كانت متناقضة مع فكرة الملكية الوراثية. جمال عبدالناصر مَثَل فكرة القائد الخارج من عمق المجتمع، من قلب الطبقة الوسطى، الصاعد بعزيمته وتحديه للنظام الذي تواجد قبله ليأخذ السلطة بالقوة من أجل تغيير سير التاريخ في بلده وفي المنطقة والذي يرى حوله ما يجعله يتصور (عن قدر كبير من الحق) أنه يُعبِر عن إرادة الشعب الذي وراءه. كل ذلك يتنافى مع فكرة التراكم التاريخي المتمثل في عائلة مالكة تُورِث حكمًا شبه مطلق جيلًا وراء جيل.
النقطة الرابعة متعلقة بالشرعية. في مشروع عبدالناصر الشرعية كانت نابعة من مد شعبي فوّض الرجل بالحكم وبالتعبير عن إرادة الناس. وبالرغم من أن النظام الناصري لم يرد ولو لمرة واحدة طيلة سنوات حكمه أن يذهب إلى انتخابات حرة تعطيه شرعية التمثيل الانتخابي، إلا أن فكرة أخذ الشرعية من الناس في حد ذاتها مختلفة عن الأسس القبلية والدينية التي قامت عليها كل الملكيات العربية في العصر الحديث.
الدين كان نقطة الاختلاف الخامسة. الملكيات العربية، نتيجة لتلك الأسس التي قامت عليها، التزمت – ولو فقط في السرد العام في دولها – بنوع من الشرعية الدينية، سواء كانت الشرعية متمثلة في الملك كأمير للمؤمنين أو كتسلسل لعائلة النبي أو في أن الملك والعائلة حلفاء لمدرسة في الدين لها السبق والنفوذ في ذاك المجتمع. كل ذلك كان شديد البعد عن التصورات المدنية في المشروع الناصري التي أخرجت الدين من كل أُطر الشرعية السياسية.
تلك النقطة عن الشرعية عبّرت عن نفسها من خلال صراع كبير دخل فيه المشروع الناصري مع تيارات مختلفة من الإسلام السياسي، وكانت وقتها بعض الممالك العربية داعمة لتلك التيارات – وكان بعض هذا الدعم ليس مواجهة لنظام عبدالناصر ولكن عن قناعة – أو عن ضرورة داخلية تفرض مساعدة من يقولون إنهم المتحدثون باسم الدين والممثلون له في العمل السياسي.
أخيرًا كان هناك اختلاف في الطباع، ليس فقط بين الأشخاص، ولكن بين النظم. المشروع الناصري والنظام الحاكم الذي تكوَن حول الأفكار – وحول الرجل – كان ثوريًا، وأحيانًا يبدو معبأ بطاقة تغيير كبيرة، وكثيرًا ما كان يذهب إلى اختيار رجال فيهم الكثير من الاندفاع وربما من التهور. كما أن لهجة النظام – في إعلامه وخطابه وحتى في سرده السياسي في المحافل المختلفة – كانت غالبًا تعبوية وأحيانًا غاضبة، أو تريد أن تبدو وكأنها معبرة عن غضب شعبي وعن مظلومية تاريخية (والحق أنه في حالات كثيرة كانت هناك بالفعل مظلومية تاريخية).
لكن على الجانب الآخر، داخل القصور الملكية وبتراكم عادات بُنيت على توقير الملوك وإعطائهم مكانة خاصة فوق المجتمعات، وبحكم الحياة الاجتماعية للطبقات العليا في الملكيات العربية (والكثير منها كان في نهايات الخمسينات والستينات قد بدأ التعرف على رقي أعلى المجتمعات الغربية وعلى وجاهة الثقافة الأوروبية) كانت اللغة وطرق التعبير مختلفة. كانت بالضرورة بعيدة عن الثورية وكانت بالاختيار محافظة وتريد أن تظهر بخطاب هادئ. وكان في اختلاف الشكل والخطاب وأسلوب السرد تعميق في الوجدان لخلافات كانت ظاهرة في الأذهان.
قبل وبعد كل ذلك يبقى أن المشروع الناصري نفسه فشل في تحديد موقفه من الملكيات العربية – فلا هو عاداها بشكل قاطع ولا هو وضع لنفسه حدودًا في مجال الاختلافات معها. ولعل الحرب في اليمن كانت أوضح مثال لذلك. جمال عبدالناصر تدخّل سياسيًا ثم أمنيًا ثم عسكريًا وبشكل كبير لمساعدة تحرك عسكري تحول إلى ثورة على النظام الملكي في اليمن، وهو لاشك يدرك أن الدخول بهذا الشكل الواسع في جنوب الجزيرة العربية سوف يراه النظام السعودي كخطر مباشر – من ناحيتين: الأولى، أن التدخل لدعم حركة تريد اسقاط نظام ملكي عربي في حد ذاته شيء مرفوض من العائلة المالكة السعودية.
الناحية الثانية، أن التدخل كان في المجال الجغرافي الذي تراه السعودية على أنه محيطها الإستراتيجي المباشر. لكن ذلك لم يمنع جمال عبدالناصر من توسيع وتطوير وجود قواته في الجزيرة العربية، ومن تصوير هذا الوجود – من خلال حملات إعلامية مهولة كانت واصلة إلى كل أرجاء العالم العربي – على أنه صراع مع رجعية متناقضة مع القومية العربية التي هي (في فكر وسرد المشروع الناصري) التعبير الحقيقي عن إرادة ومصالح المجموعات الأكبر في الشعوب العربية.
ذلك الصراع لا كان مباشرًا ولا كان مكتومًا، ولا تطور إلى محاولة لبسط النفوذ الناصري على الجزيرة العربية ولا توقف ليفهم ويراعي مصالح دولة عربية ذات وزن ثقيل كالسعودية (ووراءها دول الخليج).
وكالعادة في التاريخ كما في المواقف الإنسانية، كانت نتيجة نصف المواجهة كل الفشل. وبالفعل كانت حرب اليمن مثالًا لذلك الفشل.
لكن الغريب أن المشروع الناصري اتخذ أسلوبًا مختلفًا في مواجهته للقوى الغربية الكبرى. هناك – كما سنرى في المقال القادم – ذهب جمال عبد الناصر الى النهاية في استخدامه لأدوات الصراع.