الوطن العربي

رأي.. طارق عثمان يكتب لـCNN: الملكية المصرية وناصر والعالم العربي.. إسماعيل الرائع والكارثي (3)

راديو الأمل FM | سي إن إن

في الذكرى السبعين لسقوط الملكية المصرية وبداية المشروع الناصري، الكاتب والمعلق السياسي طارق عثمان يكتب سلسلة جديدة لـCNN بالعربية عن تأثيرهما على العالم العربي. والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.

هناك صورتان للخديوي إسماعيل في التاريخ – إسماعيل الرائع و إسماعيل الكارثي. والواقع أن الصورتين صحيحتان. الفارق هو الإطار الزمني للنظر، وربما – وهو الأهم – على أي نقاط في تركة إسماعيل يضع كل منا الثقل.

مراقبون ومؤرخون أوروبيون هم من سموا إسماعيل بالرائع، والملفت أن التسمية نادرة جدًا، ليس فقط في إطلاقها من غربيين على ملك شرقي، لكن في إطلاقها بشكل عام. ربما أشهر اثنين – في القرون القليلة التي سبقت إسماعيل – دخلا التاريخ بهذا اللقب كانا لودوفيكو (واحد من أهم كبار أسرة ميدتشي التي قادت مدينة فلورنسا الإيطالية في أهم فترات عصر النهضة)، والسلطان سليمان العثماني (و هو صاحب قفزات إدارية – قبل أن تكون حربية – في تاريخ الإمبراطورية العثمانية).

روعة إسماعيل جاءت من خلال أربعة نقاط:
واحد: إذا كان – كما قدمنا في المقالين، الأول والثاني في هذه السلسلة – أن محمد علي هو مؤسس مصر الحديثة وواضع صورة أول دولة حديثة في كل المنطقة – وأن ابنه إبراهيم قاد محاولة بناء امبراطورية في شرق البحر الأبيض المتوسط – فإن إسماعيل (ابن إبراهيم) هو من شَكَل مصر الحديثة – وكان لذلك تأثيرا واسعا على كل المنطقة التي أصبحت فيما بعد العالم العربي.

التشكيل كان من خلال إدخال خدمات مدنية مختلفة أهمها الإنارة الكهربائية في الشوارع، وبدايات الصرف الصحي، ونظم الشوارع ورصفها، وتنظيم إدارة المدن من خلال محليات تُسند إليها مسؤوليات عن مناطق محددة في كل مدينة، بالإضافة الى تنظيم عمل الشرطة وتحديد سلطاتها. إسماعيل كان أيضًا أول من أدخل في الشرق فكرة الحكومة بشكلها الحديث من نظارات (أو وزارات) تتبع رئيس لمجلس الوزراء مسؤول عن السلطة التنفيذية في البلد.

النتيجة كانت تغيير حاسم في صورة القاهرة والإسكندرية، فإذا بوسط المدينتين يتحول من إطاره الشرقي التقليدي الذي استمر منذ ما قبل عصر المماليك والعثمانيين وحتى النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلى شكل أوروبي مستوحى من باريس وڤيينا وروما – شوارع واسعة وطويلة تتفرع إلى أحياء، وميادين كبرى هي نقلات من منطقة الى أخرى كما هي منظمة لحركة السير، ومباني مرتفعة عدد من الطوابق مصممة على طرز غربية مختلفة.

وقبل وبعد كل ذلك، كان هناك اهتمام بالجمال لم تشهده مصر لقرون قبل ذلك. إسماعيل اهتم جدًا بالخضرة (أشجار ونباتات وزهور، الكثير استورده من أماكن بعيدة في العالم). ذلك الاهتمام أعطى قيمة للجمال، ليس فقط داخل البيوت، ولكن في الفضاء العام.

كل ذلك غير ليس فقط شكل القاهرة والإسكندرية ولكن أيضًا غير صورتيهما في الوجدان الشرقي (في الشام والجزيرة العربية وشمال إفريقيا) وفي الوجدان الغربي (في أوروبا – والملفت أن صورة مصر الحديثة وصلت أصدائها حتى اليابان).

هذه الصورة الجديدة في الوجدان كانت الطريق إلى السبب الثاني لروعة إسماعيل. ذلك أن التغيرات التي أحدثتها تطويرات إسماعيل جعلت من القاهرة والإسكندرية مركزين جاذبين للثروة وللمواهب، خاصة أن التغيرات في المدينتين حدثت في وقت كان فيه الشام وأجزاء كبيرة من حوض البحر الابيض المتوسط تمر بمشاكل اقتصادية وسياسية عميقة جعلت الكثير من ثروات ومواهب تلك البلاد تترك بلدانها باحثة عن أماكن أخرى تحط فيها رحالها وتجعل منها أوطانًا جديدة. وكانت مصر – بعد تطور الأسس التي بناها محمد علي وبعد تغييرات إسماعيل – واحدة من أكبر البلاد جذبًا لتلك الثروات و المواهب.

النتيجة كان توسيع كبير لثقافة المجتمع المصري. قبل إسماعيل كانت مصر منقسمة اجتماعيا إلى دوائر صغيرة جدًا – عثمانية، اوروبية، و القليل القليل من المصريين – تدور حول عائلة محمد علي وبلاطها، ومحيط واسع جدًا من غالبية مصرية ذات ثقافة بعيدة تمامًا عن تلك في البلاط على قمة المجتمع. بعد إسماعيل، بدأت في الظهور داخل المجتمع المصري طبقات مختلفة عريضة، تداخلت فيها خلفيات شامية وأرمنية ويهودية ويونانية وإيطالية وفرنسية وبلجيكية وبلغارية ومجرية مع المحيط المصري الواسع الذي بدأ يتفاعل بشدة مع المجموعات التي جاءت إلى مصر واستوطنتها. وكان الحاصل ليس فقط تدرجا أكبر في المجتمع، لكن ثقافات مختلفة تحتك مع بعضها البعض بشكل يومي. والرائع أن ذلك الاحتكاك كان طيلة ذلك الزمن سلس وسلمي، يضيف إلى مصر و يُغنيها. بل إنه في بعض الاماكن – اهمها الإسكندرية – خرج من ذلك الاحتكاك ثقافة خاصة – متوسطية، تمتزج فيها الأفكار والرؤى الغربية مع الشرقية – ربما لم تظهر إلا في مصر في ذلك الوقت بالذات.

ذلك التنوع و الثراء الثقافي يوصلنا إلى السبب الثالث لروعة إسماعيل – وهو أأن ما وضع إسماعيل بذرته من تطوير و تحديث كان بداية العصر الليبرالي لمصر – ومصر وقتها (عن حق) مركز الشرق، وعليه ما كان في مصر في ذلك الزمان من ليبرالية وصلت إشعاعاتها إلى الجزيرة العربية شرقًا وإلى مراكش والرباط غربًا.

الليبرالية هنا تتعدى فكرة التنوع الثقافي. إسماعيل نقل رؤية أسرة محمد علي من فكرة تثبيت السيطرة على مصر وجعلها مملكة عائلية ومن فكرة الدولة المحاربة لتوسيع ممتلكاتها في الشرق، إلى فكرة الدولة الناعمة برفاهية الثراء والسلام والتقدم – وبالطبع الثقافة التي تستحق تلك الكلمة، بما في ذلك الاهتمام الشديد بالجمال بكل معانيه. تلك كانت الليبرالية التي خرجت من تطويرات عصر إسماعيل.

إسماعيل أراد أن يعبر عن كل ذلك من خلال الحدث الذي رآه هو الأهم في كل عصره، افتتاح قناة السويس. الافتتاح، في رأي العديد ممن عاصروه، كان الحفل الأكبر في العالم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لاشك أن الحفل، الذي حضره مجموعة من أهم أمراء العالم وأشهر فنانوه، كلف مصر مبالغ طائلة. لكن إسماعيل اراده تقديمًا لمصر التي أعاد تشكيلها إلى العالم كله.

هنا كثيرًا ما يُظلم إسماعيل. مؤرخون كثيرون ركزوا على كلمة إسماعيل الشهيرة بأنه أراد أن تكون مصر قطعة من أوروبا لتصويره على أنه كان حالما سعى وراء سراب. وهذا خطأ، لأن إسماعيل لم يتصور أن مصر ستكون جزء من اوروبا بمعنى انتماء ثقافي. إسماعيل أراد مصر في شكلها، في تحضرها، في رقي أساليب الحياة فيها، وفي صورتها الجمالية، لا تختلف عن مدن مثل باريس وڤيينا وبروكسل وروما. بهذا المعنى أراد إسماعيل مصر قطعة من أوروبا. والذي حدث أنه، طيلة أكثر من نصف قرن بعد انتهاء عهد إسماعيل، كانت الأجزاء الأهم والأوضح من القاهرة والإسكندرية بالفعل كذلك.

لكن الثمن كان باهظًا. إسماعيل أفلس مصر. حجم الديون التي تراكمت على مصر وعلى إسماعيل شخصيًا خلال تقريبا خمسة عشر عامًا بلغت مستويات عجزت الخزانة المصرية عن خدمتها بشكل مستمر. لاشك أن بعض السياسات التي اتبعتها بعض دور المال والاستثمار والبنوك الغربية – خاصة في إنجلترا – صعبت من وضع مصر ومن قدرتها على خدمة الدين – وكان السبب في ذلك محاولات لإجبار إسماعيل على بيع حصص من أسهم شركة قناة السويس، وهي وقتها على وشك أن تصبح الممر المائي الأهم في العالم.

لكن تبقى حقيقة أن إسماعيل وأهم من عاونوه أساءوا الإدارة المالية للبلد. وكانت النتيجة تدخل الدائنين، والدول التي تحمي مصالحهم (بشكل رئيسي، بريطانيا بدرجة أقل فرنسا) في أهم شئون إدارة الدولة المصرية. وعندما رفض إسماعيل ذلك – والوثائق البريطانية تظهره غاضبًا ومعاندًا، أحيانا لدرجة الثورة الشديدة – تدخلت بريطانيا لدى البلاط العثماني واستصدرت فرمانًا بعزله وتولية ابنه توفيق خديوي جديد لمصر.

إسماعيل خرج إلى منفى في إيطاليا، ثم كان – بعد أن ضاع الكثير مما بقى من المال وبعد أن انفض من حوله من تصورهم أصدقاء – أن قضى بقية عمره في فيلا خارج اسطنبول تطل على البوسفور، ما زالت باقية إلى الآن. صور إسماعيل في أواخر حياته – وبعضها محفوظ في الأوراق الخاصة لبعض أحفاد أحفاده – تظهره حزينًا مكسورًا، ربما من المرض، وربما من عدم قدرته على تكملة مشروعة لتشكيل مصر كما تصورها.

لكن بعيدًا عن ما حدث لإسماعيل، ثمن مشروعه كان بداية تدخل غربي – بريطاني في الأساس – في مصر، تطور بسرعة بعد ذلك إلى احتلال كامل. و كان وقوع مصر تحت السيطرة الغربية المباشرة بداية هيمنة اوروبية كاملة على كل المشرق.

لذلك يبقى إسماعيل في وجداننا الحاكم الرائع و الكارثي في آن واحد. ويبقى الحكم على تركته لتقدير الناظر في تاريخ عصره. من زوايا الليبرالية والتطوير والتركيز على الجمال، هو إسماعيل الرائع. لكن من زوايا الاستراتيجية السياسية الجغرافية، كان بعيدًا عن الروعة.

[ad_2]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى